دولة العصابة : حماة، وجه القاتل البشع

 

 

النظام الذي بناه حافظ اﻷسد في سوريا هو أحد أكثر اﻷنظمة في العالم تعقيداً من حيث تفاهماته و بنيته، وأحد أكثرها بساطة في طريقة عمله القائمة على مبدأ “العصا والجزرة”. من هنا اخترنا الأسلوب التسلسلي في محاولتنا المتواضعة لمقاربة آليات عمل هذا النظام. كل مرحلة في نظام اﻷسد بنيت على أسس و تفاهمات تم التوصل ٳليها في المرحلة التي سبقتها، مثل النظام كمثل القذيفة الصاروخية ذات المراحل المتعددة، كل منها تبدأ من حيث انتهت سابقتها.

علاقات وتحالفات اﻷسد ونظامه اتخذت الشكل العنكبوتي ، فكل اتصال مع جهة يفتح باباً مع جهة أخرى وهكذا. بالتالي يحتاج المتابع لتطور النظام ولعلاقاته المحرمة أن يفتش في جهات قد لا تخطر ببال و يضيع وقته وجهده في البحث عن وقائع فعل اﻷسد والمتعاملون معه كل ما يلزم ﻹخفائها.

الذكرى السنوية الثلاثون لمجزرة اﻷسد الكبرى في حماه تفرض علينا تجاوز التسلسل الزمني الذي اتبعناه لتفسير استمرار نظام اﻷسد وتماسك بنية العصابة اﻷسدية ، فحين يتحدث الدم و لو بعد ثلاثة عقود، فالدم هو من يحدد المسار.

بدأ التحضير لمجزرة حماة قبل الثاني من شباط ١٩٨٢ بكثير، بدأ التحضير للمنازلة الكبرى بين اﻷسد واﻹخوان منذ ١٦ كانون الثاني ١٩٧٩ وهو يوم فرضت الثورة اﻹيرانية على محمد رضا بهلوي ، شاه ٳيران ، الرحيل و التنازل عن الحكم بعدما قدمت حوالي ٧٠٠٠٠ شهيد. لنتذكر أن هذا كان قبل اندلاع الحرب التي شنها صدام ضد الجار الإيراني والتي ربما كان مقدراً  لها أن تنتهي، هي الأخرى ، إلى حرب أبدية “اورويلية ” تصلح لإدامة الاستبداد في البلدين.

اﻷسد أدرك حينها أن مصيراً مماثلاً لمصير الشاه قد ينتظره. اﻷسد كان يبني بصبر نظاماً “شاهنشاهياً ” سوف تتجلى مظاهره وأهدافه الحقيقية وقت توريث “بشار” ووقت يدرك السوريون، لكن متأخرين، الطبيعة الكامنة والفرعونية لنظام العائلة. نجاح الثورة في إيران أكد مخاوف الأسد من الإخوان الذين كان له معهم حساب قديم، منذ حاولوا قتله في اللاذقية أثناء شبابه.

لاحظ الأسد أن الثورة الإيرانية وجدت قاعدتها الصلبة في بازار طهران ومدن إيران المحافظة و تمتعت بدعم من رجال الدين الشيعة الغاضبين من حكم الشاه “السني” والذي اعتبروه علمانياً كافراً. الحراك الإيراني استند إلى طبقة متدينة و محافظة ، غير متطرفة وقادرة على استمالة الطبقات الفقيرة والمتوسطة بآن معاً. وجود طبقة متدينة ووسطية إلى حد ما، ساهم إذاً في إضعاف حكم الشاه والشعب الإيراني وجد في هذا التحالف بين يساريين معتدلين و حركة متدينة وسطية، بديلاً عن الشاه وحكمه القمعي.

الأسد فهم حينها أن الخطر على نظامه سيأتي من هكذا تحالف بين يسار معتدل ومحافظ نوعاً ما، مع حراك إسلامي وسطي وقابل بالتعايش مع الآخر. بهذا المعنى كانت حركة الإخوان المسلمين بتراتبيتها شبه الديمقراطية و بتجذرها في قلب المجتمع السوري السني المحافظ تشكل شوكة في حلق الأسد. هذه الحركة القادرة على جذب الجماهير المحافظة ، كانت في نفس الوقت قابلة للتطور و تهدد بأن تصبح حجر الرحى في أي معارضة جدية لنظامه. التخلص من هذه الحركة والخلاص من كل حراك إسلامي سياسي قابل للتطور باتجاه الاعتدال والتعايش مع الآخر أصبح هدف الأسد الأول.

الأسد وضع حينها استراتيجية لتجفيف الإسلام السياسي عن طريق سحق الحركات الإسلامية القابلة لأن تحكم يوماً مع تشجيع الإسلام الاجتماعي والدعوي الذي يخضع لسيطرته. هذا يعني أن الإسلام السياسي الممكن في غياب حركة معتدلة ومنظمة سوف يكون إسلاماً متطرفاً ،  رافضاً للآخر وعنيفاً ، مما يجعل قدرة هكذا إسلام على تجنيد الأتباع محدودة و فرصة المتطرفين في التفاهم مع الآخرين والوصول للسلطة جد محدودة.

لكي يشجع الأسد هذا السيناريو، قام بمحاربة الإسلام “المعتدل” وغير المقاتل المتمثل بجماعة الإخوان وغضَّ البصر، في البداية، عن الحراك المتطرف، حتى قبل قيام الثورة الإيرانية، بدلالة قتل مروان حديد عام ١٩٧٦  لاستثارة مشاعر أتباع هذا اﻷخير.

الإخوان من جهتهم وقعوا بين نارين . من جهة “الطليعة المقاتلة” المدعومة بالسلاح من صدام حسين والتي كانت تظن أن زعيم البعث العراقي سيهب لنجدتها في ساعة الحشرة ، وبين استفزازات الأسد المذهبية المتكررة وتحرش عصابات النظام بهم و مجازرها الصغيرة مقارنة بما سيحدث عام ١٩٨٢.

انتهى الأمر كما نعرف إلى رجحان كفة الطليعة المقاتلة وإلى وقوع مناوشات بين الفينة والأخرى مع اغتيالات تقوم بها الطليعة المقاتلة لرجالات الصف الثاني من النظام، وأخرى يقوم بها النظام لأشخاص يزعجونه ثم يلصقها بالطليعة المقاتلة ! مع اعتقالات و  قتل عشوائي ، لكن “بالمفرق” في انتظار أن تنضج الظروف المناسبة “لأم معارك ” الأسد ضد شعبه الأعزل.

الأسد كان بحاجة لظروف دولية مؤاتية سوف تكتمل شروطها في بداية عام ١٩٨٢. حينها كان نظام صدام قد فقد كل قدرة على المبادرة في حربه المجنونة ضد إيران وأصبح يحتاج لدعم مفتوح من دول الخليج ومن الغرب والشرق كي يقدر على المحافظة على حدوده الدولية بعدما كان قد خسر كل الأراضي الإيرانية التي سبق له وأن احتلها. إيران، حليفة الأسد، انتقلت من الدفاع إلى الهجوم منذ خريف 1981 وكادت أن تحتل البصرة.

صدام ما عاد يقدر أن يفعل شيئاً لإنقاذ أصدقائه من إخوان سوريا وصار هو نفسه بحاجة إلى المساعدة بفضل “حنكته وذكائه “. عرب الخليج المرتعدون والخائفون من المارد الإيراني بعدما كانوا قد ساندوا العدوان العراقي على إيران، ما كانوا ليرفضوا طلباً للأسد، حليف إيران والقادر على التوسط لهم عند ملالي طهران. ما كان العرب العاربة ليخاطروا بعروشهم وبإغضاب الأسد من أجل بضعة آلاف من السوريين، في حين كان يسقط الآلاف من العراقيين والإيرانيين يومياً في حرب عبثية ما عاد صدام قادراً على احتوائها.

لاتحاد السوفيتي كان قد تورط في افغانستان منذ ١٩٧٩ وفعل فيها وبشعبها مثلما سيفعل الأسد في حماة و أكثر. بريجنيف الخرف ما كان ليبالي لو فني نصف سكان سوريا على يد صديقه اﻷسد ، خليفته ” بوتين ” يفعل نفس الشيء في أيامنا هذه.

الأمريكيون من جهتهم، والمنخرطون في حرب باردة مرتفعة الحرارة مع اتحاد سوفييتي متهاو، ما كان ليضرهم أن تحصل مجازر في مناطق نفوذ المعسكر الشرقي مما سيعجل في انهيار الكتلة الشرقية وفي إفقاد السوفييت كل مصداقية. في نفس الوقت، كان الأسد قد أسدى لهم العديد من الخدمات وما كانوا ليرفضوا له طلباً “بسيطاً” ثمنه بضعة آلاف من الشهداء في سوريا، هذا إضافة إلى أن ربيبتهم إسرائيل كانت تحثهم على التساهل مع الأسد وطلباته.

الموقف اﻹسرائيلي من مجزرة حماة تميز منذ البداية بالغموض و بالرضا الضمني عن سلوك اﻷسد العدواني تجاه مواطنيه على العموم وتجاه كل حراك يمكن أن يكون مقاوماً بحق ، خاصة التيارات اﻹسلامية بما فيها تلك المعتدلة.

لماذا تغاضت ٳسرائيل عن مجازر اﻷسد في حماة ؟ ٳن لم تكن الدولة الصهيونية على علم بما كان يخطط له اﻷسد وبما كان يحدث على اﻷرض في حماة فهذه مشكلة، وٳن كانت تعلم فالمشكلة أكبر. من المستبعد أن تكون ٳسرائيل جاهلة بتحرك جيش اﻷسد ٳلى حماة ومع أن أجهزة أمن اﻷسد لم تقبض على أي عميل للموساد منذ “كوهين” فالأغلب أن ٳسرائيل كانت على علم تام بما يحدث سواء عبر”تفاهماتها” مع النظام أو عبر عملائها المدسوسين على كافة مستويات القرار السياسي والعسكري في سوريا. هؤلاء العملاء الذين لا تبحث عنهم مخابرات اﻷسد المشغولة بأمور أهم بكثير، مثل مراقبة المعارضين وٳصدار الموافقات اﻷمنية.

ٳسرائيل كانت تعلم بكل ما كان يدور في حماة ولا تنبس ببنت شفة فلماذا ؟
قد يقول قائل “وهل كنت تتوقع من دولة العدو الصهيوني أن تتدخل لحماية العزل من سكان حماة و ردع جيش اﻷسد “؟ ولم لا ؟ هذا بالضبط ما فعلته فيتنام حين قام جيشها بغزو عدوتها التاريخية “كمبوديا” و تحريرها من كافة فلول “الخمير الحمر” قبل أن تنسحب بشكل أنيق ومنظم تاركة للكمبوديين ٳدارة شؤونهم بأنفسهم. هذا العمل النبيل غير جذرياً طبيعة العلاقات بين كل الدول في جنوب شرق آسيا وأدخل المنطقة في حراك ٳيجابي وواعد.

كان بمقدور ٳسرائيل أن تهدد بالتدخل أو على اﻷقل تفضح ممارسات “عدوها” النظام اﻷسدي وذلك أضعف اﻹيمان. كان ذلك سيظهر ٳسرائيل بمظهر الدولة المتحضرة واﻹنسانية، التي تحترم الحياة البشرية حتى لدى أعدائها، فالعداء للآخر لا يعني “سحق” الآخر وحرمانه من حقه في الحياة وٳلا لكانت البشرية لا تزال في العصر الحجري. لا أحد يقبل بالقتل العشوائي  ويكون متحضراً أو جديراً بالانتماء للٳنسانية بمعناها الواسع.

لنذكر أن السوفييت وحلفاءهم وجهوا كل آلتهم اﻹعلامية لفضح جرائم اﻷمريكيين في فيتنام وبشاعة السياسة الامبريالية اﻷمريكية. في الطرف المقابل، خصص اﻹعلام اﻷمريكي الساعات الطوال لٳظهار شناعة جرائم السوفييت في أفغانستان ثم في الشيشان وهكذا، فلماذا تعففت ٳسرائيل عن فضح وحشية وهمجية “عدوها” السوري ؟.

أول مرة أتى ذكر حماة على لسان مسؤول ٳسرائيلي كانت في أيلول ١٩٨٢في تصريح أدلى به رئيس وزراء ٳسرائيل حينها، “مناحيم بيغن” والذي اشتكى، في غمرة اكتئابه، من وسائل اﻹعلام : “التي تنتقد ٳسرائيل بسبب أفعال غير مسؤولة قام بها لبنانيون، في حين تصمت أمام مذابح كبرى تقوم بها أنظمة عربية ضد شعوبها”. “بيغن” كان ينتقد اﻹعلام العالمي وموقفه من مذبحة “صبرا وشاتيلا”.

لعلها محض مصادفة أن ٳسرائيل ستطلق حرباً مفتوحة على لبنان في 6 حزيران 1982 بعد ثلاثة أيام من محاولة اغتيال سفيرها في لندن و أربعة أشهر من المجزرة. اسرائيل ستحقق في ٩٠ يوماً ما “تقاعس” اﻷسد عن تطبيقه خلال ست سنوات وهو القضاء التام على الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان.

الجيش السوري لن يقاوم ٳسرائيل ٳلا فيما ندر ولن يجعل مهمتها معقدة. على العكس، ستكون قوات هذا الجيش عبئاً على المقاومة الفلسطينية في بيروت ! ست سنوات والجيش السوري في لبنان وينتهي به اﻷمر ٳلى الفرار الذليل أمام القوات اﻹسرائيلية الغازية. القوات السورية لم تشارك لا في مقاومة ولا هي صمدت في مواقعها. لولا صمود الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية حينها لكان الغزو اﻹسرائيلي لبلاد اﻷرز نزهة، كما كان احتلال الجولان قبلها بخمسة عشر عاماً… خمسة عشر عاماً من سلطة اﻷسد ولا صمود ولا حتى ممانعة حين يتعلق اﻷمر “بالعدو” اﻹسرائيلي، أما حين يتعلق اﻷمر بمواطني حماة العزل ، فلهم السيف والجيوش الجرارة.

ٳسرائيل التي كانت تعد “لحماة” خاصة بها ما كانت لتزعج اﻷسد من أجل “مسائل جانبية” كمقتل ثلاثين ألفاً من اﻷبرياء في “مزرعة اﻷسد”. ما كانت ٳسرائيل لتخاطر بفقد بضعة جنود ٳضافيين في حال أراد اﻷسد رفع كلفة الغزو اﻹسرائيلي لبلاد اﻷرز.

بعد المجزرة ، تغيرت طبيعة النظام وعلاقة الحاكم بالمحكوم في سوريا ، السوريون كلهم سيدفعون ثمناً غالياً لعدم وقوفهم صفاً واحداً وراء المدينة الشهيدة ، سواء عن جهل بما كان يحدث أو عن تخاذل. قبل المجزرة كان اﻷسد طاغية يقهر شعبه ، بعدها أصبحت طبيعة النظام ” احتلالية ” بامتياز و العلاقة بين النظام وشعبه أصبحت علاقة بين منتصر قاهر ومهزوم ذليل.

اﻷسد أصبح نسخة عصرية عن “هولاكو” و “تيمورلنك”…

أحمد الشامي  رابط المدونة
نشرت في العدد االخامس و العشرين من “حـريـــــــــــــات ” ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الإثنين في السادس من شباط 2012. رابط تحميل الجريدة بصيغة pdf

No comments yet... Be the first to leave a reply!

Leave a comment